ستالينغراد.. المدينة التي رفضت الخضوع لهتلر وغيرت مجرى الحرب العالمية الثانية

كانت معركة ستالينغراد معركةً ضاريةً دارت بين القوات الروسية من جهة والقوات الألمانية النازية وحلفائها من دول المحور من جهة أخرى، وقد حدثت خلال الحرب العالمية الثانية واشتُهرت بوصفها واحدةً من أكبر المعارك العسكرية وأطولها وأكثرها دموية في العصر الحديث.

بدأت المعركة في آب 1942 واستمرت حتى نهاية شباط 1943 وشارك فيها أكثر من مليوني محارب في عمليات قتالية ملحمية وسقط على إثرها نحو مليوني شخص بين قتيل وجريح بينهم عشرات آلاف المدنيين الروس.

دارت معركة ستالينغراد في إحدى أهم المدن الصناعية الروسية ونتج عنها -في النهاية- تفوق قوات الحلفاء في الحرب على خصومهم من دول المحور.

لعنة العدو اللدود

بصرف النظر عن أهميتها الاستراتيجية كونها أهم مركز تصنيع عسكري في الاتحاد السوفييتي وقتها، كان لهتلر فيها نظرة خاصة أخرى في احتلالها كونها تحمل اسم عدوه اللدود جوزيف ستالين زعيم الاتحاد السوفييتي وسقوطها في يده سيوجه ضربة معنوية كبيرة جدا للسوفييت وليس سرا أن هتلر كان يكره الشيوعية السائدة في الاتحاد بمقدار كرهه لليهود وربما أكثر! السؤال المهم.. ما الذي جعل ستالينغراد حقا قلعة حصينة صمدت أمام أقوى جيش في العالم آنذاك؟

أعلن هتلر أن كل ذكور المدينة سيُقتلون وأن نساءها سيُهجّرن حال سقوط المدينة على يد جيشه، ما جهز المسرح لمعركة صعبة ودموية، وقد أمر ستالين كل من يقدر على حمل السلاح بحمله دفاعًا عن المدينة، وذلك قبل بدء هجوم الجيش الألماني السادس في 23 آب 1942 م.

سبق سلاح الجو الألماني وصول القوات البرية منفذا حملات قصف جوي عنيف ومتواصل حولت المدينة إلى أنقاض وأطلال. لكن ذلك انعكس بعدها سلبا على الجيش الألماني وأرغمه على التخلي عن تكتيكه الناجح الـ”Blitzkrieg” أو حرب البرق الذي يعتمد بصفة كبيرة على سلاح الدبابات والهجمات السريعة الخاطفة، ليجد نفسه غارقا في حرب مدن من بيت لبيت ومن شارع لشارع.

بداية المعركة

استطاعت القوات الروسية -في البداية- تأخير تقدم الجيش الألماني بسلسلة من الاشتباكات العنيفة شمال ستالينغراد وفقدت في هذه العمليات نحو مئتي ألف مقاتل كانوا ثمن صد الجنود الألمان، ولأن الروس فهموا خطط هتلر، شحنوا كثيرًا من مخازن الحبوب والماشية إلى خارج ستالينغراد، لكنهم لم يُخلوا المدينة من سكانها الذين تجاوز عددهم 400 ألف نسمة لأن القيادة رأت في بقائهم شحذًا لهمم المقاتلين.

بدأ قصف طائرات سلاح الجو الألماني (اللفتوافا) ما منع عبور الشحنات عبر نهر الفولغا، وأغرقت الطائرات في أثناء ذلك عددًا من السفن الروسية التجارية المبحرة فيه، واستمر القصف منذ أواخر آب حتى نهاية الهجوم بعشرات الضربات التي نفذتها الطائرات الألمانية.

استخدم الجيش السادس القوة الضاربة والسوفييت ردوا بها بدورهم، لكن ما اختلف بين موقف الجيشين أن السوفييت في دفاع والألمان في هجوم، والسوفييت يدافعون عن أرضهم شأنهم شأن القطة المهاجَمة المحشورة في زاوية، التي سرعان ما “تستأسد” حالما وجدت نفسها في موقف غير قابل للتراجع، لا تملك شيئا لتخسره كي تظهر كل القوة التي لديها.

عملية أورانوس

داخل المدينة احتدم القتال العنيف بين الفيرماخت والجيش الأحمر، وسط قلة اعتبار لسقوط الضحايا سواء عسكريين أومدنيين، فقد أعطى اسم “ستالينغراد” للمعركة أهمية بالغة واستثنائية عند كل من جوزيف ستالين الذي تحمل المدينة اسمه ونظيره الألماني أدولف هتلر، فكان من المستحيل أن يقبلا الخسارة فيها مهما كلفهما الأمر. على الرغم من تمكن الألمان من إخضاع كامل المدينة تقريبا بعد مقاومة شديدة واجهوها من السوفيات، إلا أنهم فشلوا في كسر آخر الخطوط الدفاعية للجيش الأحمر الذي تمسكت قواته بالضفة الغربية لنهر الفولغا.

في 19 نوفمبر 1942، بدأ السوفيات حملة عسكرية أطلقوا عليها عملية أورانوس، حيث شن الجيش الأحمر هجومين متزامنين ضد مواقع القوات النازية المتواجدة داخل المدينة، انهارت بسرعة بعد معارك عنيفة مع السوفيات الذين تمكنوا من محاصرة وتطويق حوالي 300000 من قوات الجيش السادس والجيش الرابع، نجحت العملية بسبب معرفة السوفييت “موقع أكل كتف” الجيش السادس، حيث قام بمهاجمة الجيش الروماني التابع له، المعروف بضعف قواته ببقية عناصر الجيش.

“لا تخطوا إلى الخلف خطوة”

كانت خسائر الروس كبيرةً وطائرات الألمان مستمرة في القصف، لكن ستالين أمر قواته بعدم الانسحاب من المدينة، إذ أصدر أمرًا شهيرًا رقمه 227 ينص على أن: «ولا خطوة إلى الخلف!» أما الذين استسلموا تعرّضوا لمحاكمات عسكرية أفضت إلى الإعدام أحيانًا.

بدأ ضباط ستالين بإرسال التعزيزات إلى المدينة وما حولها بعد انهيار عدد القوات فيها لما لا يتجاوز 20 ألف جندي معهم أقل من مئة دبابة. واستعر القتال في شوارع ستالينغراد واستخدم الطرفان قناصين توضّعوا على أسطح أبنية المدينة.

الشتاء الروسي

بحلول الشتاء، ومع تواصل الحصار بدأت المقاومة الألمانية تضعف، فقد تسبب البرد والجوع في إنهاك الجنود، وتعطلت الآليات والمدرعات لقلة الوقود، إضافة إلى نقص الذخيرة، في وقت اشتدت الهجمات السوفياتية التي تريد إنهاء وجودهم.

ازداد الأمر سوءا برفض هتلر قيام الجيش السادس بكسر الحصار والخروج من ستالينغراد حيث أمرهم بالبقاء مهما كلفهم الثمن مع ضمان مواصلة تزويدهم بالإمدادات عن طريق جسر جوي، وقيام القوات الأخرى بهجوم مضاد لكسر الحصار وتوحيد القوات. لكن ذلك لم ينجح بعدما فشل الهجوم الألماني المضاد.. عملية عاصفة الشتاء في الوصول إلى ستالينغراد، وعجزت عمليات التموين بالجو عن نقل كميات كافية من المؤن والذخيرة لتغطية حاجيات الجيش، ثم توقفت كلياً بعد احتلال الجيش الأحمر للمطارات التي تستعملها القوات الألمانية سواء التي داخل المدينة أو القريبة منها. قاد كل ذلك للانهيار التام للجيش الألماني السادس الذي اضطر قائده فريدريك باولوس للاستسلام في 2 فبراير 1943 ومعه أغلب قوات الجيش السادس رغم مواصلة البعض الآخر القتال إلى أن تمت تصفيته.

نهاية المعركة

بحلول شباط 1943 حررت القوات الروسية مدينة ستالينغراد وأسرت نحو مئة ألف جندي ألماني، مع أن أحداث المقاومة المتفرقة استمرت حتى بدايات آذار، ومات معظم الأسرى في مخيمات الاحتجاز الروسية بفعل المرض حينًا والجوع حينًا آخر.

كانت خسارة ستالينغراد أول فشل اعترف به هتلر في الحرب، إذ استمرت المعركة 200 يوم وخسر فيها الألمان 1.5 مليون شخص بين قتيل وجريح وأسير وكان ذلك يعادل ربع القوات الألمانية العاملة على الجبهة الروسية – الألمانية، وكتبت الصحافة الأجنبية في تلك الايام عن المعركة تقول: ستالينغراد – إنها قلعة محاطة بطوق من الفولاذ، لم تحرك العاطفة أبدا هتلر في تلك المعركة فرغم تواجد ابن أخيه ليو ضمن الصفوف المقاتلة هنالك مصابا، رفض نقله بمروحية إسعافية وإجلاءه من هناك، بالطبع عندما أصر هتلر على معاملة حوالي 300000 ألف مقاتل كرقم قابل للتعويض دون أن يعي أبدا أن المعنوية التي قد تكسر باحتمال خسارة تلك المعركة ستجعل من جيشه يتداعى شيئا فشيئا، وهذا ما حدث بالطبع.