من الملكي النيابي إلى الرئاسي الشمولي.. قصة الدستور في سوريا خلال 100 عام

من الملكي النيابي إلى الرئاسي الشمولي.. قصة الدستور في سوريا خلال 100 عام

لايف بوست – سياسي

تعتبر سوريا مهداً للشرائع المختلفة خاصة المكتوبة، وشكلت عبر تاريخها عنواناً للتشريع والقانون، و اكتشف علماء الآثار الكثير من القوانين المكتوبة في منطقة سوريا التاريخية.

و تعود تلك القوانين إلى مراحل وحضارات تاريخية مختلفة، من بابلية وحثيّة وأكّادية وغيرها، ويعود أقدمها إلى تاريخ 2360 ق.م، الذي اكتشف في مملكة ماري.

وأُسست تلك المملكة في الألف الثالث قبل الميلاد على ضفاف نهر الفرات في الجزيرة السورية، ومع التطور المدني والاجتماعي، خاصة في التاريخ المعاصر، بقيت سوريا مركزاً للتشريع والتقنين.

ومر التاريخ السوري بثلاثة أنواع من أنظمة الحكم: الملكي، النيابي أو البرلماني، والرئاسي، سجّل كل منها قوانينه ودساتيره الخاصة، كُتبت وأُقرت وفقاً للظروف السياسية والاجتماعية في كل مرحلة.

وفي العهد العثماني بدأ أول دستور عصري يشمل سوريا، وألحقت سوريا، منذ العام 1516، بالسلطنة العثمانية، وتذكر كتب التاريخ أن أول دستور عصري تم إعلانه، وشمل سوريا، هو الدستور الذي أقرّه السلطان عبد الحميد الثاني في العام 1876.

و تضمن ذلك الدستور تحويل السلطة في السلطنة العثمانية إلى ملكية دستورية برلمانية، وأحدث مجلس وزراء مسؤول أمام السلطة التشريعية.

و هذا الدستور أعطى ضمانات للحريات الشخصية لكل أقاليم السلطنة العثمانية، فضلاً عن استقلال القضاء وفرض التعليم الابتدائي الإلزامي، كما فتح الباب لغير الأتراك للمشاركة في مفاصل الدولة.

وكان للسوريين في تلك الفترة حضور كبير في المناصب الرسمية، نذكر منهم: محمد فوزي باشا العظم، الذي كان عضواً في مجلس ولاية سوريا في العام 1879، وشغل منصب رئيس بلدية دمشق في العام 1891، ووزيراً للأوقاف في العام 1912.

ولم يستمر ذلك طويلاً، بسبب إيقاف دستور السلطان عبد الحميد بعد عام من إقراره، وبعد هـ..زيـ.مـ.ة الدولة العثمانية في الـ.حـ.ر.ب العالمية الأولى، حينها تـ.خـ.لّـ.ت السلطنة العثمانية عن سوريا بموجب معاهدة “سيفر” في العام 1920، لصالح دول الحلفاء (بريطانيا وفرنسا وإيطاليا).

وانتقلت سوريا بعدها إلى مرحلة الدستور الفيصلي حيث كانت الملكية النيابية والدولة الاتحادية، وحينها كان الملك فيصل الأول بن الحسين ملكاً على سوريا والعراق، وتألفت أول حكومة وطنية سورية برئاسة رضا الركابي في العام 1918.

وانبثق عن حكومة الركابي لجنة مؤلفة من عشرين عضواً، برئاسة هاشم الأتاسي، قامت بوضع مشروع دستور مؤلف من 147 مادة، وأقر دستوراً للمملكة السورية في تموز من العام 1920.

ودستور المملكة السورية في ذلك الوقت نص في مواده الأولى على أن حكومة المملكة السورية العربية ملكية مدنية نيابية، شكل الدولة اتحادي، ولكل مـ.قـ.اطـ.عـ.ة حكم ذاتي ومجلس نيابي وحكومة محلية.

وأعطى ذلك ضمانات واسعة للحريات المدنية والدينية والشخصية، وأشار صراحة إلى الطوائف والإثنيات في سياق حقها في إقامة شعائرها الدينية.

و نص دستور 1920 على أن يكون ملك البلاد محترماً وغير مسؤول ويدين بالإسلام، وهو ما أخذه الملك فيصل عن دستور السلطان عبد الحميد، الذي ربط بين دين الإسلام والسلطة، الأمر الذي استمر في جميع الدساتير السورية اللاحقة.

وفي عهد الا.نـ.تـ.د.ا.ب، كانت دساتير سورية بصلاحيات فرنسية، ولم يُتح لدستور المملكة السورية أن يستمر طويلاً، فمناخ الحريات الدستورية الذي بدأ في عهد الملك فيصل لم يعجب الدول الا.سـ.تـ.عـ.مـ.اريـ.ة الكبرى، بريطانيا وفرنسا، اللتين كانتا تطمعان في الحصول على ثروات العمليات العسكرية، وبموجب اتفاق الدولتين “سايكس بيكو”، كانت سوريا من نصيب فرنسا.

مع بداية عهد الانـ.تـ.د.ا.ب الفرنسي أُلـ.غـ.ي دستور الملك فيصل، وأُحل مكانه “صـ.ك الانـ.تـ.داب”، الصادر في العام 1924، والذي قسم الأراضي السورية لثمانية أقاليم مـ.نـ.فـ.صـ.لة، وأحدث دولاً مستقلة لكل من العلويين والدروز.

وبسبب الحراك الذي وفّرته الثورة السورية في العام 1925، اضـ.طـ.ر المندوب السامي الفرنسي، هنري بونسو، في العام 1928، إلى إجراء انتخابات عامة وتأسيس أول لجنة دستورية مؤلفة من 27 نائباً، وبدأت بوضع أحكام الدستور، عن طريق لجنة ترأسها فوزي الغزي، الذي كان واحداً من كبار فقهاء القانون الدستوري في ذلك الوقت، ويطلق عليه لقب “أبو الدستور السوري”.

وأنهت الجمعية التأسيسية صياغة دستور مكوّن من 115 مادة، نصت على استقلال سوريا ضمن نظام نيابي وطني جمهوري، وحددت علاقاتها كدولة مستقلة مع فرنسا بالنصوص التعاهدية التي يمكن أن تعقدها الدولتان في المستقبل.

و أعطى هذا الدستور صلاحيات واسعة لمجلس النواب، وضَمن الحريات العامة والدينية، إلا أن المادة 116 منه، فرضتها فرنسا وأعطت فيها صلاحيات واسعة لسلطة الانـ.تـ.د.ا.ب، ونصت على أن “ما من حكم من أحكام هذا الدستور يعارض، ولا يجوز أن يعارض، التعهدات التي قطعتها فرنسا على نفسها فيما يختص بسوريا، لا سيما ما كان منها متعلقاً بجمعية الأمم”.

على الرغم من ذلك، اعتمد هذا الدستور بعد أن وقّعت عليه فرنسا في العام 1930، ونُظمت انتخابات نيابية، وأُسّست الجمهورية السورية، لتكون سوريا ثالث دولة في الشرق الأوسط تتبنى النظام الجمهوري بعد تركيا ولبنان.

ومهّد مناخ الحريات المدنية الذي وفّره دستور 1930 لإنهاء الانـ.تـ.داب الفرنسي، عبر فتح المجال أمام ظهور المؤسسات الدستورية الوطنية للدولة السورية، والأحزاب والشخصيات الوطنية التي شكّلت أولى بذور المقاومة ضـ.د الفرنسيين.

في العام 1943، وفي أثناء حكم الجنرال ديغول، جرت في سوريا انتخابات نيابية، وأقر المجلس الجديد تعديلات على دستور 1930، منها إلغاء المادة 116، وأدخل منطقة جبال العلويين وجبل الدروز ضمن أراضي الدولة السورية.

كما أقر دستور 1943 النظام الجمهوري النيابي، ونص على تولي مجلس النواب سلطة التشريع وانتخاب رئيس الجمهورية، كما كفل الحقوق التقليدية للسوريين.

حـ.قـ.بـ.ة الانـ.قـ.لابـ.ات: دساتير بيد العسكر، بعد الاستقلال عن فرنسا، في العام 1946، حافظت سوريا على النظام الجمهوري النيابي وعلى المناخ الديمقراطي.

لكن ما أثـ.{ على ذلك هي الانقلابات التي تتالت على البلاد، بدأها قائد الجيش حسني الزعيم، الذي انقلب على الرئيس شكري القوتلي ورئيس الحكومة خالد العظم، في آذار من العام 1949.

عـ.طّـ.ل الزعيم دستور 1943، وحوّل النظام البرلماني إلى نظام رئاسي، وحصر جميع الصلاحيات الاقتصادية والاجتماعية بيده، وطـ.غـ.يـ.ان صلاحيات السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية، ورفع مدة انتخاب رئيس الجمهورية إلى سبع سنوات، إلا أن الوقت لم يسنح للزعيم لإقرار دستور مفصل على مقاسه.

و قام اللواء سامي الحناوي، في آب من العام 1949، بالاشتراك مع مجموعة من ضباط الجيش، بالانقلاب الثاني في تاريخ سوريا الحديث، فاعـ.تـ.قـ.ل حسني الزعيم ورئيس وزرائه محسن البرازي، وقام بإعـ.د.ا.مـ.ه بعد محاكمة عسكرية سريعة.

وقلّد الحناوي نفسه رئيساً للدولة السورية لمدة يومين، ثم سلم الحكم رسمياً إلى هاشم الأتاسي، حيث أُجريت انتخابات وتمّ وضع دستورٍ مؤقت للبلاد، تمهيداً للعودة إلى النظام الدستوري.

وفي عام 1949 قام العقيد أديب الشيشكلي بانقلابه الأول، وأنهى بدوره على حكم سامي الحناوي، لكن بقيت الحكومة على رأس عملها تحت سيطرة الحناوي.

وفي أيلول من العام 1950 تم إقرار دستور جديد، ينص على أن النظام في سوريا برلماني نيابي، ويفصل بين السلطات، ويحدد ولاية رئيس الجمهورية بخمس سنوات.

وحافظ الدستور الجديد على وصف الدولة سوريا بأنها “جمهورية عربية ديمقراطية نيابية ذات سيادة تامة”، كما حافظ على المادة الثالثة التي تنص على “دين رئيس الجمهورية الإسلام، والفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع”.

وتصف بعض المراجع دستور العام 1950 بأنه ليبرالي تم إعداده على مقاس طبقة الأغنياء، في الوقت الذي كانت فيه الشريحة الفقيرة في سوريا، وهي الشريحة الأوسع، خارج أي تمثيل ضمن السلطة.

في العام 1954، أقامت القوى الوطنية السورية تحالفاً ضـ.د الشيشكلي، أفـ.ضـ.ى إلى تنحيته، وتسلّم هاشم الأتاسي رئاسة الدولة الذي أعاد العمل بدستور العام 1950، واستمر العمل به حتى قيام الجمهورية العربية المتحدة في شباط من العام 1958.

عـ.صـ.فـ.ت الوحدة مع مصر بكل الإرث الديمقراطي السوري، وأدخلت سوريا لأول مرة في نادي الـ.د.كـ.تـ.اتـ.و.ر.يـ.ات، حيث تـ.حـ.ولت.ت سوريا، ضمن أحلام الرئيس جمال عبد الناصر في دولة الوحدة، إلى النظام الاشتراكي في بلد كانت تزدهر فيه الصناعة والتجارة بشكل كبير جداً.

ويمكن القول إن الدستور الذي وضعه عبد الناصر لدولة الوحدة شكّل مرجعاً أساسياً للدساتير اللاحقة في سوريا، حيث ألغى الحكم النيابي البرلماني، وأقام نظاماً رئاسياً، يعطي صلاحية كبيرة لرئيس الجمهورية. منها تعيين السلطة التشريعية والحق بحلها، وتعيين النواب والوزراء وإعفائهم من مناصبهم، كما استبعد دستور الوحدة تعدد الأحزاب، وحرية الإعلام.

في أيلول من العام 1961، قام عبد الكريم النحلاوي بانقلاب أنهى الوحدة مع مصر، ووضع دستوراً مؤقتاً في كانون الأول من العام نفسه، لكنه لم يغير كثيراً من مواد دستور الوحدة.

وكان نظام الحكم في دستور النحلاوي هـ.جـ.يـ.نـ.اً بين البرلماني والرئاسي، وأعطى الحق لرئيس الجمهورية بحل المجلس النيابي.

وفي أيلول من العام 1962، أُقر دستور جديد، مكوّن من 166 مادة، بقي معمولاً به حتى آذار من العام 1963.

ونهاية العام 1962 صدر في سوريا المرسوم التشريعي رقم 51 الذي أعلنت بموجبه حالة الطوارئ، إثر انقلاب نفذه مجموعة من العسكريين بقيادة حزب البعث، من أبرزهم صلاح جديد ومحمد عمران وحافظ الأسد.

ووضع هؤلاء السلطة في سوريا بيد ما سمي “المجلس الوطني لقيادة الثورة”، الذي أقرّ دستوراً جديداً في العام 1964، شكّل انـ.عـ.طـ.افـ.اً لشكل الدولة نحو النظم الاشتراكية.

تضمّن دستور 1964 مبدأ قيادة الحزب الواحد، وتـ.قـ.سـ.يم الحكم إلى سلطتين إدارية وسياسية، الأولى تنفيذية إدارية يتولاها مجلس الوزراء، ولا تملك أي سلطة سياسية أو تشريعية.

والثانية يتولاها مجلسان، الأول سمي “المجلس الوطني للثورة” ويتولى السلطة التشريعية ويراقب عمل السلطة التنفيذية، والثاني سمي “المجلس الرئاسي”، وهو يضع السياسة الداخلية والخارجية ويعيّن الوزراء ويقيلهم ويوجههم ويشرف على عملهم.

في العام 1966، برز اسم حافظ الأسد وأصبح وزيراً للدفاع، وشريكه صلاح جديد في قيادة حزب البعث، وتم إيقاف العمل بدستور 1964، وأقر دستور جديد، تضمن تسليم السلطة السياسية للقيادة القطرية، ومن مهامها تعيين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ولها الحق في إقالتهم، والسلطة الإدارية، ويمثّلها رئيس الجمهورية.

وعُقد المؤتمر القطري الرابع الاستثنائي لحزب البعث، وتقرر فيه إصدار دستور مؤقت لحين إصدار دستور دائم من قبل مجلس منتخب، وصدر الدستور في أيار من العام ذاته.

في العام 1971، أقر حزب البعث دستور اتحاد الجمهوريات العربية بين سوريا ومصر وليبيا، وهو مؤلف من 71 مادة، لكن أوقف العمل به بعد شهور قصيرة، وأعيد العمل بالدستور المؤقت الذي أقر في العام 1969.

في تشرين الأول من العام 1970 كان الصراع على أشده بين صلاح جديد الذي يسيطر على حزب البعث، وبين حافظ الأسد الذي يسيطر على الجيش، لينتهي الصـ.ـ.ر.ا.ع مع انقلاب حافظ الأسد واستيلائه على السلطة واعـ.تـ.قـ.ال صلاح جديد.

وأعيد العمل بالدستور المؤقت لعام 1969، قام الأسد بتعيين 173 عضواً في مجلس الشعب، كلف لجنة منهم بوضع دستور جديد فصّل على مقاسه، وفي آذار من العام 1973.

وعرض الدستور الجديد للاستفتاء الشعبي، ليتم اعتماده وسُمي الدستور الدائم للجمهورية العربية السورية، ليبقى دستوراً لنحو أربعين عاماً.

استمر العمل بهذا الدستور حتى العام 2012، من دون أي تغيير، باستثناء تعديل في العام 2000، أجمع عليه مجلس الشعب بعد رحيل حافظ الأسد، ليكون على مقاس وريثه، حيث عدّل المادة المتعلقة بسن رئيس الجمهورية لتناسب سن بشار الأسد.

بعد الثورة السورية 2011 أقر نظام الأسد الابن دستوراً، أقل ما يقال عنه بأنه نسخة مـ.شـ.وهـ.ة عن دستور والده الذي أقره في العام 1973، شمل تعديلات صوريّة من وجهة نظر نظام الأسد.

وحافظ الدستور الجديد على معظم مواد دستور 1973، ولم يتضمن أي تعديلات جوهرية سوى أنه أضاف 14 مادة وأدخل 47 تعديلاً عليه، بالإضافة إلى إلغاء المادة الثامنة، التي تنص على أن حزب “البعث العربي الاشتراكي” هو القائد للدولة والمجتمع.

اليوم، ومع اقتراب اجتماعات الجولة السادسة للجنة الدستورية السورية في جنيف، ينتظر السوريون إقرار دستور جديد، قد يفضي إلى إطلاق عملية سياسية وتشكيل رؤية للحل السياسي.

المصدر: تلفزيون سوريا